الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
هذه مسألة كلام الله تعالى الناس فيها مضطربون قد بلغوا فيها إلى سبعة أقوال: أحدها قول من يقول: إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم وإما من غيره وهذا قول الصائبة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود وفي كلام صاحب الكتب " المضنون بها على غير أهلها " ورسالة " مشكاة الأنوار " وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطابقة الأحاديث النبوية. وثانيها قول من يقول: بأنه معنى واحد قديم قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره. ورابعها قول من يقول: إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث ذكره الأشعري في المقالات عن طائفة. وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم وهؤلاء قال طائفة منهم: إن تلك الأصوات القديمة هي الصوت المسموع من النار أو هي بعض الصوت المسموع من النار وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك وقالوا هذا مخالفة لضرورة العقل. وخامسها وسادسها قول من يقول: إنه حروف وأصوات لكن تكلم بعد أن لم يكن متكلماً وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته بعد أن لم يكن متكلماً ولا فاعلاً وهذا قول الكرامية وغيرهم وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة. وسابعها قول من يقول: إنه لم يزل متكلماً إذا شاء بكلام يقوم به وهو متكلم بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديماً وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة. وبالجملة أهل السنة والجماعة - أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية - يقولون أن الكلام غير مخلوق وهذا هو المتواتر عن السلف والأئمة من أهل البيت وغير أهل البيت ولكن تنازعوا بعد ذلك على الأقوال الخمسة المتأخرة. أما القولان الأولان قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم والثاني قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم كالنجارية والضرارية. وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث وهذا هو المعروف عند أهل البيت كعلي بن أبي طالب وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وغيرهم ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد من كان ينكر الرؤية ولا يقول بخلق القرآن ولا ينكر القدر ولا يقول بالنص على علي ولا بعصمة الأئمة الاثني عشر ولا يسب أبا بكر وعمر والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غيرهم من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها بخلاف الشاذ الذي يعفر أنه لا أصل له لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا سبقهم إليه أحد. وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا - أي ابن المطهر الذي رد عليه ابن تيمية في هذا البحث -: قولك " إن أمره ونهيه وأخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وأخباره أتريد به أنه حادث في ذاته أم حادث منفصل عنه والأول قول أئمة الشيعة المتقدمة والجهمية والمرجئة والكرامية مع كثير من أهل الحديث وغيرهم. ثم إذا قيل حادث أهو حادث النوع فيكون الرب قد صار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً أو حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء والكلام الذي كلم به موسى هو حادث وإن كان نوع كلامه قديماً لم يزل فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك وقد علم أنك أردت النوع الأول وهو قول الذين جمعوا بين التشيع والاعتزال فقالوا: إنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه فيقال لك: إذا كان الله قد خلقه منفصلاً عنه لم يكن كلامه فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من قامت به لا من خلقها وفعلها في غيره ولهذا إذا خلق الله حركة وعلماً وقدرة في جسم كان ذلك الجسم هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات الله بل مخلوقات له ولو كان متصفاً بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا أنطق الجامدات - كما قال " وأيضاً فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه وهذا ما قالته الحلولية من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وحينئذ فيكون قول فرعون " وأيضاً فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول لم يفهموهم أن هذه المخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه الذي تكلم والكلام قائم به لا بغيره ولهذا عاب الله من يعبد إلهاً لا يتكلم فقال: " قال ما لا يعقل ولم يفهم الرسل الناس هذا بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفصل بل ما هو متصف به. قالوا: المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلماً فيقال لهم: للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال: قيل المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلاً عنه وهذا إنما قاله هؤلاء. وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم. وقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته فقام به الكلام وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات والصنف الثاني يقولون: صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل وهو قائم به يتعلق بمشيئته وقدرته. إذا كان كذلك فقولكم أنه صفة فعل ينازعكم فيه طائفة وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال: هب أنه صفة فعل منفصل عن القائل الفاعل أو قائم به أما الأول فهو قولكم الفاسد وكيف تكون الصفة غير قائمة بالموصوف أو القول غير قائم بالقائل فإن قلتم: هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الحوادث قيل: والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون: كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ونحن نعقل الفرق بين نفس التكوين وبين المخلوق المكون وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر بن عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قويه وقول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث وحكاه البخاري في كتاب أفعال العباد عن العلماء مطلقاً وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية. ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته شيئاً فشيئاً لكنه لم يزل متصفاً به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف. وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم. فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب قلنا لكم: نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل أن الباري يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء فقد ناقض كتاب الله. ومن قال أنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل لأن الله تعالى يقول: " قالوا وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء فنحن نقول به وما يقول به من يقول أن كلام الله قائم بذاته وأنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به قلنا ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة. ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به: أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية فإذا قال الأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائماً بالمتكلم لا منفصلاً منه كافياً في هذا الباب. وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء: أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث ما لم يكن فاعلاً لها ولا لضدها فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل فإن قلتم: القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث إن كان ممكناً كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلماً إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة وإن لم يكن جائزاً كان قولنا هو الصحيح فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين. فإن قلت: أنتم توافقوننا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على قدم العالم قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن الفاعل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم وأنتم تقولون: إن قيل بالحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك قلنا: إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في أن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلاً على جوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها أكثر ما في هذا الباب أن نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل. فنقول: إن كون المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلاً ولا نقلاً لكن قد نكون ممن نقله بلوازمه فنكون متناقضين وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه لا نرجع عن الصواب ليطرد الخطأ فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث. فإن قلتم: إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية قلنا: بل قولكم أن الرب تعالى لم يزل معطلاً لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئاً ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضي ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادراً وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعاً غير ممكن لأنه جمع بين النقيضين فكان فيما عليه المسلمون من أنه لم يزل قادراً ما يبين أنه لم يزل قادراً على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته والقول بدوام كونه متكلماً ودوام كونه فاعلاً بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم وهو منقول عن جعفر الصادق بن محمد في الأفعال المتعدية فضلاً عن اللازمة وهو دوام إحسانه. والفلاسفة الدهيرة قالوا بقدم العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن الباري موجب بذاته للعالم ليس فاعلاً بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه وأنتم وافقتموهم على طائفة باطلهم حيث قلتم إنه لا يتصرف بنفسه ولا يقوم به أمر يختار ويقدر عليه وجعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم. ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء وقلنا أنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال متكلماً ذاتاً فلا نقول أن كلامه مخلوق منفصل عنه فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم ولا نقول أنه شيء واحد أمر ونهي وخبر وأن معنى التوراة والإنجيل واحد وأن الأمر والنهي صفة لشيء واحد فإن هذا مكابرة للعقل ولا نقول أنه أصوات متقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضاً فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم لما كان أزلياً لم يزل ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك ولا نقول أنه صار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلاً للحوادث التي كل بها بعد نقصه ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب والقول في الثاني كالقول في الأول ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوقاً له حادثاً بعد أن لم يكن لأنه يكون سبب الحدوث وهو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك فيعقل سبب حدوث الحوادث ومع هذا يمتنع أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديماً لكان مبدعه موجباً بذاته يلزمه موجبه ومقتضاه فإذا كان الخالق فاعلاً بفعل يقوم بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجباً بذاته لشيء من الأشياء فامتنع قدم شيء من العالم وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئاً منفصلاً عنه مقارناً مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى لأنه على هذا التقدير الأول يكفي في نفس المشيئة والفعل الاختياري والقدرة ومعلوم أن ما يتوقف على المشيئة والفعل الاختياري القائم به أن يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع. وأكثر الناس لا يعلمون كثيراً من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب. انتهى.
لما كان السلف والأئمة متفقين على أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقد علم المسلمون أن القرآن بلغه جبريل عن الله إلى محمد وبلغه محمد إلى الخلق وأن الكلام إذا بلغه المبلغ عن قائله لم يخرج عن كونه كلام المبلغ عنه بل هو كلام لمن قاله مبتدئاً لا كلام من بلغه عنه مؤدياً فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى " وبلغ هذا الحديث عنه واحد بعد واحد حتى وصل إلينا كان من المعلوم أنا إذا سمعناه من المحدث به إنما سمعنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تكلم به بلفظه ومعناه وإنما سمعناه عن المبلغ عنه بفعله وصوته ونفس الصوت الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم لم نسمعه وإنما سمعنا صوت المحدث عنه والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المحدث فمن قال أن هذا الكلام ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفترياً وكذلك من قال إن هذا لم يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أحدثه في غيره أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بلفظه وحروفه بل كان ساكتاً أو عاجزاً عن التكلم بذلك فعلم غيره ما في نفسه فنظم هذه الألفاظ ليعبر عما في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ونحو هذا الكلام - فمن قال هذا كان مفترياً ومن قال أن هذا الصوت المسموع صوت النبي صلى الله عليه وسلم كان مفترياً فإذا كان هذا معقولاً في كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بإثبات ما يستحقه من صفات الكمال وتنزيه الله فالسلف والأئمة كانوا يعلمون أن هذا القرآن المنزل المسموع من القارئين كلام الله كما قال تعالى: " وقال تعالى: " فمن قال أن هذا القرآن قول البشر فقد كفر وقال بقول الوحيد الذي أوعده الله سقر ومن قال أن شيئاً منه قول البشر فقد قال ببعض قوله ومن قال إنه ليس بقول رسول كريم وإنما هو قول شاعر أو مجنون أو مفتر أو قال هو قول شيطان نزل به عليه ونحو ذلك فهذا أيضاً كافر ملعون. وقد علم المسلمون الفرق بين أن يسمع كلام المتكلم منه أو من المبلغ عنه وأن موسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة وإنا نحن إنما نسمع كلام الله من المبلغين عنه وإن كان الفرق ثابتاً بين من سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه ومن سمعه من الصاحب المبلغ عنه فالفرق هنا أولى لأن أفعال المخلوق وصفاته أشبه بأفعال المخلوق وصفاته من أفعاله وصفاته بأفعال الله وصفاته. ولما كان الجهمية يقولون إن الله لم يتكلم في الحقيقة بل خلق كلاماً في غيره ومن أطلق منهم أن الله تكلم حقيقة فهذا مراده فالنزاع بينهم لفظي كان من المعلوم أن القائل إذا قال هذا القرآن مخلوق كان مفهوم كلامه أن الله لم يتكلم بهذا القرآن وأنه هو ليس بكلامه بل خلقه في غيره وإذا فسر مراده بأني أردت أن حركات العبد وصوته والمداد مخلوق كان هذا المعنى وإن كان صحيحاً ليس هو مفهوم كلامه ولا معنى قوله فإن المسلمين إذا قالوا هذا القرآن كلام الله لم يريدوا بذلك أن أصوات القائلين وحركاتهم قائمة بذات الله كما أنهم إذا قالوا هذا الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يريدوا بذلك أن حركات المحدث وصوته قامت بذات رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وكذلك إذ قالوا في إنشاد المنشد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل هذا شعر لبيد وكلام لبيد لم يريدوا بذلك أن صوت المنشد هو صوت لبيد بلى أرادوا أن هذا القول المؤلف لفظه ومعناه هو للبيد وهذا منشد له فمن قال: إن هذا القرآن مخلوق أو أن القرآن المنزل مخلوق أو نحو هذه العبارات كان بمنزلة من قال إن هذا الكلام ليس هو كلام الله وبمنزلة من قال عن الحديث المسموع من المحدث: إن هذا ليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بهذا الحديث وبمنزلة من قال إن هذا الشعر ليس هو شعر لبيد ولم يتكلم به لبيد ومعلوم أن هذا كله باطل. ثم إن هؤلاء صاروا يقولون: هذا القرآن المنزل المسموع هو تلاوة القرآن وقراءة القرآن مخلوقة ويقولون: تلاوتنا للقرآن مخلوقة وقراءتنا له مخلوقة ويدخلون في ذلك نفس الكلام المسموع ويقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق. ويدخلون في ذلك القرآن الملفوظ المتلو المسموع فأنكر الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة هذا وقالوا: اللفظية جهمية وقالوا: افترقت الجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت القرآن مخلوق وفرقة قالت: نقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق وفرقة قالت: تلاوة القرآن واللفظ بالقرآن مخلوق فلما انتشر ذلك عن أهل السنة غلطت طائفة فقالت: لفظنا بالقرآن غير مخلوق وتلاوتنا له غير مخلوقة. فبدع الإمام أحمد هؤلاء وأمر بهجرهم ولهذا ذكر الأشعري في مقالاته هذا عن أهل السنة وأصحاب الحديث فقال: والقول باللفظ والوقف عندهم بدعة: من قال اللفظ بالقرآن مخلوق فهو مبتدع عندهم ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في صريح السنة أنه سمع غير واحد من أصحابه يذكر عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع وصنف أبو محمد بن قتيبة في ذلك كتاباً وقد ذكر أبو بكر الخلال هذا في كتاب السنة وبسط القول في ذلك وذكر ما صنفه أبو بكر المروذي في ذلك وذكر قصة أبي طالب المشهورة عن أحمد التي نقلها عنه أكابر أصحابه كعبد الله وصالح ابنيه والمروذي وأبي محمد فوزان ومحمد بن إسحاق الصنعاني وغير هؤلاء. وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك فصار طائفة منهم يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق وليس مرادهم صوت العبد كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وطوائف غير هؤلاء وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف ففهم ذلك بعض الأئمة فصار يقول: أفعال العباد أصواتهم مخلوقة رداً لهؤلاء كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة وأهواء للنفوس حصل بذلك نوع من الفرقة والفتنة. وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج ونحوه وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهما وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ. وصار قوم يطلقون القول بأن التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر ولكن الإنسان إذا تكلم بالكلام فلا بد له من حركة ومما يكون عن الحركة من أقواله التي هي حروف منظومة ومعان مفهومة. والقول والكلام يراد به تارة المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام نوعاً من العمل وقسماً منه ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسيماً للعمل ونوعاً آخر ليس هو منه. ولهذا تنازع العلماء في لفظ العمل المطلق هل يدخل فيه الكلام على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم عملاً فتكلم هل يحنث على قولين: وذلك لأن لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل فالأول كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار فهو يقول لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لعملت مثل ما يعمل " كما أخرجه الشيخان في الصحيحين فقد جعل فعل هذا الذي يتلوه آناء الليل والنهار عملاً كما قال لعملت فيه مثل ما يعمل الثاني كما في قوله تعالى: " والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليست هي كلام الله ولا أصوات العباد هي صوت الله وهذا الذي قصده البخاري وهو مقصود صحيح. وسبب ذلك أن لفظ التلاوة والقراءة واللفظ مجمل مشترك يراد به المصدر ويراد به المفعول فمن قال اللفظ ليس هو الملفوظ والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر كان معنى كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع وهذا صحيح ومن قال اللفظ هو الملفوظ والقول هو نفس المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول هو الكلام المقول الملفوظ وهذا صحيح. فمن قال اللفظ بالقرآن أو القراءة أو التلاوة مخلوقة أو لفظي بالقرآن أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو وذلك هو كلام الله تعالى وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعنى صحيحاً لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي احتراز عما إذا أراد به فعله وصوته. وذكر اللالكائي: إن بعض من كان يقول ذلك رأى في منامه كأن عليه فروة ورجل يضربه فقال له: لا تضربني فقال: إني لا أضربك وإنما أضرب الفروة فقال: إن الضرب إنما يقع ألمه علي فقال: هكذا إذا قلت لفظي بالقرآن مخلوق وقع الخلق على القرآن. ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي دخل في ذلك المصدر الذي هو عمله وأفعال العباد مخلوقة ولو قال: أردت به أن القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي قيل: لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام وإن كان مقصودك صحيحاً فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا وكان هذا وسطاً بين الطرفين. وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون القرآن حيث تصرف كلام الله غير مخلوق ومن غير أن يقرن بذلك ما يشعر أن أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوقة وصارت كل طائفة من النفاة والمثبتة في مسألة التلاوة تحكي قولها عن أحمد وهم كما ذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال: إن كل واحدة من هاتين الطائفتين تذكر قولها عن أحمد وهم لا يفقهون قوله لدقة معناه. ثم صار ذلك التفرق موروثاً في أتباع الطائفتين فصارت طائفة تقول أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق موافقة لأبي حاتم الرازي ومحمد بن داود المصيصي وأمثالهما كأبي عبد الله بن منده وأهل بيته وأبي عبد الله بن حامد وأبي نصر السجزي وأبي إسماعيل الأنصاري وأبي يعقوب الفرات الهروي وغيرهم وقوم يقولون نقيض هذا القول من غير دخول في مذهب ابن كلاب مع اتفاق الطائفتين على أن القرآن كله كلام الله لم يحدث غيره شيئاً منه ولا خلق منه شيئاً في غيره لا حروفه ولا معانيه مثل حسين الكرابيسي وداود بن علي الأصبهاني وأمثالهما. وحدث مع هذا من يقول بقول ابن كلاب: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس المتكلم هو الأمر بكل ما أمر به والنهي عن كل ما نهى عنه والإخبار بكل ما أخبر به وأنه إن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة. وجمهور الناس من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم أنكروا ذلك وقالوا إن فساد هذا معلوم بصريح العقل فإن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن ولا معنى " وكذلك وقع بين أبي ذر الهروي وأبي نصر السجزي في ذلك حتى صنف أبو نصر السجزي كتابه الكبير في ذلك المعروف بالإبانة وذكر فيه من الفوائد والآثار والانتصار للسنة وأهلها أموراً عظيمة المنفعة لكنه نصر فيه قول من يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق وأنكر على ابن قتيبة وغيره ما ذكروه من التفصيل ورجح طريقة من هجر البخاري وزعم أن أحمد بن حنبل كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق وأنه رجع إلى ذلك وأنكر ما نقله الناس عن أحمد من إنكاره على الطائفتين وهي مسألة أبي طالب المشهورة وليس الأمر كما ذكره فإن الإنكار على الطائفتين مستفيض عن أحمد عند أخص الناس به من أهل بيته وأصحابه الذين اعتنوا بجمع كلام أحمد كالمروذي والخلال وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهم وقد ذكروا من ذلك ما يعلم كل عارف له أنه من أثبت الأمور عن أحمد وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المنتسبين إلى السنة والحديث من أهل خراسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذوهم ولهذا صنف عبد الله بن عطاء الإبراهيمي كتاباً فيمن أخذ عن أحمد العلم فذكر طائفة ذكر منهم أبا بكر الخلال وظن أنه أبو محمد الخلال شيخ القاضي أبي يعلى وأبي بكر الخطيب فاشتبه عليه هذا بهذا وهذا كما أن العراقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي الحسن علي بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأمثالهم أقرب إلى السنة وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خراسان الماثلين إلى طريقة ابن كلاب ولهذا كان القاضي أبو بكر بن الطيب يكتب في أجوبته أحياناً محمد بن الطيب الحنبلي كما كان يقول الأشعري إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلى أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة السنة وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وأمثالهم. وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة الباقلاني وأدخلها إلى الحرم ويقال أنه أول من أدخلها إلى الحرم وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه كما أخذه أبو الوليد الباجي ثم رحل الباجي إلى العراق فأخذ طريقة الباقلاني عن أبي جعفر السمناني الحنفي قاضي الموصل صاحب الباقلاني. ونحن قد بسطنا الكلام في هذه المسائل وبينا ما حصل فيها من النزاع والاضطراب في غير هذا الموضع.
|